فصل: ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب زلزلت الأرض وقت السحر، وكنت حينئذ بالموصل، ولم تكن بها شديدة، وجاءت الأخبار من كثير من البلاد بأنها زلزلت ولم تكن بالقوية.
وفيها أطلق الخليفة الناصر لدين الله جميع حق البيع وما يؤخذ من أرباب الأمتعة من المكوس من سائر المبيعات، وكان مبلغاً كثيراً. وكان سبب ذلك أن بنتاً لعز الدين نجاح شرابي الخليفة توفيت، فاشتري لها بقر لتذبح ويتصدق بلحمها عنها، فرفعوا في حساب ثمنها مؤونة البقر، فكانت كثيرة، فوقف الخليفة على ذلك، وأمر بإطلاق المؤونة جميعها.
وفيها في شهر رمضان، أمر الخليفة ببناء دور في المحال ببغداد ليفرط فيها الفقراء، وسميت دور الضيافة، يطبخ فيها اللحم الضأن، والخبز الجيد، عمل ذلك في جانبي بغداد، وجعل في كل دار من يوثق بأمانته، وكان يعطي كل إنسان قدحاً مملوءاً من الطبيخ واللحم، ومناً من الخبز، فكان يفرط كل ليلة على طعامه خلق لا يحصون كثرة.
وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة، ودخل الماء في خندق بغداد من ناحية باب كلواذى، فخيف على البلد من الغرق، فاهتم الخليفة بسد الخندق، وركب فخر الدين نائب الوزارة وعز الدين الشرابي ووقفا ظاهر البلد، فلم يبرحا حتى سد الخندق.
وفيها توفي الشيخ حنبل بن عبد الله بن الفرنج المكبر بجامع الرصافة، وكان عالي الإسناد، روى عن ابن الحصين مسند أحمد بن حنبل، وله إسناد حسن، وقدم الموصل، وحدث بها وبغيرها. ثم دخلت:

.سنة خمس وستمائة:

.ذكر ملك الكرج أرجيش وعودهم عنها:

في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى ولاية خلاط، وقصدوا مدينة أرجيش، فحصروها وملكوها عنوة، ونهبوا جميع ما بها من الأموال والأمتعة وغيها، وأسروا وسبوا أهلها، وأحرقوها، وخربوها بالكلية، ولم يبق بها من أهلها أحد؛ فأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
وكان نجم الدين أيوب، صاحب أرمينية، بمدينة خلاط، وعنده كثير من العساكر، فلم يقدم على الكرج لأسباب: منها كثرتهم، وخوفه من أهل خلاط لما كان أسلف إليهم من القتل والأذى؛ خاف أن يخرج منها فلا يمكن من العود إليها؛ فلما لم يخرج إلى قتال الكرج، عادوا إلى بلادهم سالمين، لم يذعروهم ذاعر، وهذا جميعه، وإن كان عظيماً شديداً على الإسلام وأهله، فإنه يسير بالنسبة إلى ما كان مما نذكره سنة أربع عشرة إلى سنة سبع عشرة وستمائة.

.ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمود:

في هذه السنة قتل سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وهو ابن عم نور الدين، صاحب الموصل؛ قتله ابنه غازي؛ ولقد سلك ابنه في قتله طريقاً عجيباً يدل على مكر ودهاء.
وسبب ذلك أن سنجر كان سيء السيرة مع الناس كلهم من الرعية والجند والحريم والأولاد، وبلغ من قبح فعله مع أولاده أنه سير ابنيه محموداً ومودوداً إلى قلعة فرح من بلد الزوزان، وأخرج ابنه هذا إلى دار بالمدينة أسكنه فيها، ووكل به من يمنعه من الخروج.
وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية، فكان يدخل إليه منها الحيات، والعقارب، وغيرهما من الحيوان المؤذي، ففي بعض الأيام اصطاد حية وسيرها في منديل إلى أبيه لعله يرق له، فلم يعطف عليه، فأعمل الحيلة حتى نزل من الدار التي كان بها واختفى، ووضع إنساناً كان يخدمه، فخرج من الجزيرة وقصد الموصل، وأظهر أنه غازي بن سنجر، فلما سمع نور الدين بقربه منها أرسل نفقة، وثياباً، وخيلاً، وأمره بالعود، وقال: إن أباك يتجنى لنا الذنوب التي لم نعملها، ويقبح ذكرنا، فإذا صرت عند جعل ذلك ذريعة للشناعات والبشاعات، ونقع معه في صراع لا ينادي وليده؛ فسار إلى الشام.
وأما غازي بن سنجر فإنه تسلق إلى دار أبيه، واختفى عند بعض سراريه، وعلم به أكثر من بالدار، فسترت عليه بغضاً لأبيه، وتوقعاً للخلاص منه لشدته عليهن، فبقي كذلك، وترك أبوه الطلب له ظناً منه أنه بالشام، فاتفق أن أباه، في بعض الأيام، شرب الخمر بظاهر البلد مع ندمائه، فكان يقترح على المغنين أن يغنوا في الفراق وما شاكل ذلك، ويبكي، ويظهر في قوله قرب الأجل، ودنوا الموت، وزوال ما هو فيه، فلم يزل كذلك إلى أخر النهار، وعاد إلى داره، وسكر عند بعض حظاياه، ففي الليل دخل الخلاء؛ وكان ابنه عند تلك الحظية، فدخل إليه داره فضربه بالسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وتركه ملقى، ودخل الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو فتح باب الدار وأحضر الجند واستحلفهم لملك البلد، لكنه أمن واطمأن، ولم يشك في الملك.
فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى الباب وأعلم أستاذ دار سنجر الخبر، فأحضر أعيان الدولة وعرفهم ذلك، وأغلق الأبواب على غازي، واستحلف الناس لمحمود بن سنجر شاه، وأرسل إليه فأحضره من فرح ومعه أخوه مودود، فلما حلف الناس وسكنوا فتحوا باب الدار على غازي، ودخلوا عليه ليأخذوه، فمانعهم عن نفسه، فقتلوه وألقوه على باب الدار، فأكلت الكلاب بعض لحمه، ثم دفن باقيه.
ووصل محمود إلى البلد وملكه، ولقب بمعز الدين، لقب أبيه، فلما استقر أخذ كثيراً من الجواري اللواتي لأبيه فغرقهن في دجلة.
ولقد حدثني صديق لنا أنه رأى بدجلة في مقدار غلوة سهم سبع جوار مغرقات، منهن ثلاث قد أحرقت وجوههن بالنار، فلم أعلم سبب ذلك الحريق حتى حدثتني جارية اشتريتها بالموصل من جواريه، أن محموداً كان يأخذ الجارية فيجعل وجهها في النار، فإذا احترقت ألقاها في دجلة، وباع من لم يغرقه منهن، فتفرق أهل تلك الدار أيدي سبا.
وكان سنجر شاه قبيح السيرة، ظالماً، غاشماً، كثير المخاتلة والمواربة، والنظر في دقيق الأمور وجليلها، لا يمتنع من قبيح يفعله مع رعيته، وغيرهم، من أخذ الأموال والأملاك، والقتل، والإهانة؛ وسلك معهم طريقاً وعراً من قطع الألسنة والأنوف والآذان، وأما اللحى فإنه حلق منها ما لا يحصى. وكان جل فكره في ظلم يفعله.
وبلغ من شدة ظلمه أنه كان إذا استدعى إنساناً ليحسن إليه لا يصل إلا وقد قارب الموت من شدة الخوف؛ واستعلى في أيامه السفهاء، ونفقت سوق الأشرار والساعين بالناس، فخرب البلد، وتفرق أهله، لا جزم سلط الله عليه أقرب الخلق إليه فقتله ثم قتل ولده غازي، وبعد قليل قتل ولده محمود أخاه مودوداً، وجرى في داره من التحريق والتغريق والتفريق ما ذكرنا بعضه، ولو رمنا شرح قبح سيرته لطال، والله تعالى بالمرصاد لكل ظالم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، ثاني المحرم، توفي أبو الحسن ورام بن أبي فراس الزاهد بالحلة السيفية، وهو منها، وكان صالحاً.
وفي صفر توفي الشيخ مصدق بن شبيب النحوي، وهو من أهل واسط.
وفي شعبان توفي القاضي محمد بن أحمد بن المنداي، والواسطي، بها، وكان كثير الرواية للحديث، وله إسناد عال، وهو آخر من حدث بمسند أحمد بن حنبل عن ابن الحصين.
وفيه توفي القوام أبو الفوارس نصر بن ناصر بن مكي المدائني، صاحب المخزن ببغداد، وكان أديباً، فاضلاً، كامل المروءة يحب الأدب وأهله، ويحب الشعر، ويحسن الجوائز عليه، ولما توفي ولي بعده أبو الفتوح المبارك ابن الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، وأكرم، وأعلي محله، فبقي متولياً إلى سابع ذي القعدة وعزل لعجزه.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بنيسابور وخراسان، وكان أشدها بنيسابور وخرج أهلها إلى الصحراء أياماً حتى سكنت وعادوا إلى مساكنهم. ثم دخلت:

.سنة ست وستمائة:

.ذكر ملك العادل الخابور ونصيبين وحصره سنجار وعوده عنها واتفاق نور الدين أرسلان شاه ومظفر الدين:

في هذه السنة ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين، وحصر مدينة سنجار، والجميع من أعمال الجزيرة، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود.
وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عداوة مستحكمة، وقد تقدم ذكر ذلك، فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والعادل، فإن ولداً للعادل تزوج بابنة لنور الدين، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم، فحسنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون ملك قطب الدين للعادل، وتكون الجزيرة لنور الدين.
فوافق هذا القول هوى نور الدين، فأرسل إلى العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشراً، وجاءه ما لم يكن يرجوه لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد أخذ الموصل وغيرها؛ وأطمع نور الدين أيضاً في أن يعطي هذه البلاد، إذا ملكها، لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين، ويكون مقامه في خدمته بالموصل، واستقرت القاعدة على ذلك، وتحالفا عليها، فبادر العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه.
فلما سمع نور الدين بوصوله كأنه خاف واستشعر، فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم، وعرفهم وصول العادل، واستشارهم فيما يفعله، فأما من أشاروا عليه بذلك فسكتوا، وكان فيهم من لم يعلم هذه الحال، فعظم الأمر، وأشار بالاستعداد للحصار، وجمع الرجال، وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه. فقال نور الدين: نحن فعلنا ذلك؛ وخبره الخبر. فقال: بأي رأي تجيء إلى عدو لك هو أقوى منك، وأكثر جمعاً، وهو بعيد منك، متى تحرك لقصدك تعلم به، فلا يصل إلا وقد فرغت من جميع ما تريده، تسعى حتى يصير قريباً منك، ويزداد قوة إلى قوته.
ثم إن الذي استقر بينكما أنه له يملكه أولاً بغير تعب ولا مشقة، وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها والعادل هاهنا، هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه لا يجوز أن تفارق الموصل، وإن عاد إلى الشام، لأنه قد صار له ملك خلاط وبعض ديار بكر وديار بكر وديار الجزيرة جميعها، والجميع بيد أولاده، متى سرت عن الموصل أمكنهم أمكنهم أن يحلوا بينك وبينها، فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمك، وقويت عدوك، وجعلته شعارك، وقد فات الأمر، وليس يجوز إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما لئلا يجعل كل حجة ويبتدئ بك.
هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، وكان في عزم صاحبها قطب الدين أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها، فمنعه من ذلك أمير كان معه، اسمه أحمد بن يرنقش، مملوك أبيه زنكي، وقام بحفظ المدينة والذب عنها، وجهز نور الدين عسكراً مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى الملك العادل.
فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار، وأن الاتفاق معه على ما يريده، فوصل الرسول ليلاً فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبر إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلاً وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلف له على ذلك، وعاد الوزير من ليلته، فسار مظفر الدين، واجتمع هو ونور الدين، ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل.
وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى العادل ليبقي عليه سنجار؛ وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه، لأثره الجميل في خدمته، وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة كما تقدم؛ فشفع إليه فلم يشفعه العادل، وظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين، فلما رد العادل شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه.
ولما وصل إلى الموصل، واجتمع بنور الدين، أرسلا إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وهو صاحب حلب، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، بالاتفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، فتواعدوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن إمتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار، وأرسلا أيضاً إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولاً إلى العادل في الصلح أيضاً؛ فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسل الخليفة، وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك، أستاذ الدار، والأمير آق باش، وهو من خواص مماليك الخليفة وكبارهم، فوصلا إلى الموصل، وسارا منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار، وكان من معه لا يناصحونه في القتال لا سيما أسد الدين شيركوه، صاحب حمص والرحبة، فإنه كان يدخل إليها الأغنام وغيرها من الأقوات ظاهراً، ولا يقاتل عليها، وكذلك غيره.
فلما وصلت رسل الخليفة إلى العادل أجاب أولاً إلى الرحيل، ثم امتنع عن ذلك، وغالط، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضاً، فلم ينل منها ما أمله، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها.
واستقرت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على هذا كلهم، وعلى أن يكونوا يداً واحدة على الناكث منهم؛ ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، وبقي كل واحد من الملوك في بلده، وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتين له بولدين لنور الدين وهما عز الدين مسعود، وعماد الدين زنكي.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، عزل فخر الدين بن أمسينا عن نيابة الوزارة للخليفة، وألزم بيته، ثم نقل إلى المخزن على سبيل الاستظهار عليه، وولي بعده نيابة الوزارة مكين الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن برز القمي، كاتب الإنشاء، ولقب مؤيد الدين، ونقل إلى دار الوزارة مقابل باب النوبي.
وفيها، في شوال، توفي مجد الدين يحيى بن الربيع، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية ببغداد.
وفيها توفي فخر الدين أبو الفضل محمد بن عمر ابن خطيب الري، الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولين وغيرهما، وكان إمام الدين في عصره، وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفيها، سلخ ذي الحجة، توفي أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الكاتب، مولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين، وكان عالماً في عدة علوم مبرزاً فيها، منها: الفقه، والأصولان، والنحو، والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث، والنحو، والحساب، وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان كاتباً مفلقاً يضرب به المثل، ذا دين متين، ولزوم طريق مستقيم، رحمه الله ورضي عنه، فلقد كان من محاسن الزمان، ولعل من يقف على ما ذكرته يتهمني في قولي، ومن عرفه من أهل عصرنا يعلم أني مقصر.
وفيها توفي المجد المطرزي، النحوي الخوارزمي، وكان إماماً في النحو، له في تصانيف حسنة.
وفيها توفي المؤيد بن عبد الرحيم بن الإخوة بأصفهان، وهو من أهل الحديث، رحمه الله. ثم دخلت:

.سنة سبع وستمائة:

.ذكر عصيان سنجر مملوك الخليفة بخوزستان ومسير العساكر إليه:

كان قطب الدين سنجر، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، قد ولاه الخليفة خوزستان، بعد طاشتكين أمير الحاج كما ذكرناه، فلما كان سنة ست وستمائة بدا منه تغير عن الطاعة، فروسل في القدوم إلى بغداد، فغالط ولم يحضر؛ وكان يظهر الطاعة، ويبطن التغلب على البلاد، فبقي الأمر كذلك إلى الأول من هذه السنة، فتقدم الخليفة إلى مؤيد الدين، نائب الوزارة، وإلى عز الدين بن نجاح الشرابي، خاص الخليفة، بالمسير بالعساكر إليه بخوزستان وإخراجه عنها، فسارا في عساكر كثيرة إلى خوزستان، فلما تحقق سنجر قصدهم إليه فارق البلاد، ولحق بصاحب شيراز، وهو أتابك عز الدين سعد ابن دكلا، ملتجئاً إليه، فأكرمه وقام دونه.
ووصل عسكر الخليفة إلى خوزستان في ربيع الآخر بغير ممانعة، فلما استقروا في البلاد راسلوا سنجر يدعونه إلى الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فساروا إلى أرجان عازمين على قصد صاحب شيراز، فأدركهم الشتاء، فأقاموا شهوراً والرسل مترددة بينهم وبين صاحب شيراز، فلم يجبهم إلى تسليمه، فلما دخل شوال رحلوا يريدون شيراز، فحينئذ أرسل صاحبها إلى الوزير والشرابي يشفع فيه، ويطلب العهد له على أن لا يؤذى، فأجيب إلى ذلك، وسلمه إليهم هو وماله وأهله، فعادوا إلى بغداد وسنجدر معهم تحت الاستظهار، وولى الخليفة بلاد خوزستان مملوكه ياقوتاً أمير الحاج.
ووصل الوزير إلى بغداد في المحرم سنة ثمان وستمائة هو والشرابي والعساكر، وخرج أهل بغداد إلى تلقيهم، فدخلوها وسنجر معهم راكباً على بغل بإكاف، وفي رجله سلسلتان، في يد كل جندي سلسلة، وبقي محبوساً إلى أن دخل صفر، فجمع الخلق الكثير من الأمراء والأعيان إلى دار مؤيد الدين نائب الوزارة، فأحضر سنجر، وقرر بأمور نسبت إليه منكرة، فأقر بها، فقال مؤيد الدين للناس: قد عرفتم ما تقتضيه السياسة من عقوبة هذا الرجل، وقد عفا أمير المؤمنين عنه، وأمر بالخلع عليه، فلبسها وعاد إلى داره، فعجب الناس من ذلك.
وقيل إن أتابك سعد نهب مال سنجر وخزانته ودوابه، وكل ماله ولأصحابه، وسيرهم، فلما وصل سنجر إلى الوزير والشرابي طلبوا المال، فأرسل شيئاً يسيراً، والله أعلم.

.ذكر وفاة نور الدين أرسلان شاه وشيء من سيرته:

في هذه السنة، أواخر رجب، توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، وكان مرضه قد طال، ومزاجه قد فسد، وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة واحد وأحد عشر شهراً، وكان شهماً شجاعاً، ذا سياسة للرعايا، شديداً على أصحابه، فكانوا يخافونه خوفا شديداً، وان ذلك مانعاً من تعدي بعضهم على بعض؛ وكان له همة عالية، أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه، وحرمته، بعد أن كانت قد ذهبت، وخافه الملوك؛ وكان سريع الحركة في طلب الملك إلا أنه لم يكن له صبرا، فلهذا لم يتسع ملكه، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا أنه لما رحل الكامل بن العادل عن ماردين، كما ذكرناه سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عف عنها، وأبقاها على صاحبها، ولو قصدها وحصرها لم يكن فيها قوة الامتناع، لأن من كانوا بها كانوا قد هلكوا وضجروا، ولم يبق لهم رمق، فأبقاها على صاحبها.
ولما ملك استغاث به إنسان من التجار، فسأل عن حاله، فقيل إنه قد أدخل قماشه إلى البلد ليبيعه، فلم يتم له البيع، ويريد إخراجه، وقد منع من ذلك، فقال: من منعه؟ فقيل: ضامن البز يريد منه ما جرت به العادة من المكس؛ وكان القيم بتدبير مملكته مجاهد الدين قايماز، وهو إلى جانبه، فسأله عن العادة كيف هي؟ فقال: إن اشترط صاحبه إخراج متاعه مكن من العادة مدبرة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد العادة مدبة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد هذه العادة مدبرة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد هذه العادة؛ فقال: إذا قلت أنا وأنت إنها عادة فاسدة، فما المانع من تركها؟ وتقدم بإخراج مال الرجل، وأن لا يؤخذ إلا ممن باع.
وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات، رحمه الله، وكان من أكثر الناس اختصاصاً به، يقول: ما قلت له يوماً في فعل خير فامتنع منه بل بادر إليه بفرح واستبشار؛ واستدعى في بعض الأيام أخي المذكور، فركب إلى داره، فلما كان بباب الدار لقيته امرأة وبيدها رقعة، وهي تشكو، وتطلب عرضها على نور الدين، فأخذها، فلما دخل إليه جاراه في مهم له، فقال: قبل كل شيء تقف على هذه الرقعة، وتقضي شغل صاحبتها؛ فقال: لا حاجة إلى الوقوف عليها، عرفنا إيش فيها. فقال: والله لا أعلم إلا أنني رأيت امرأة بباب الدار، وهي متظلمة، شاكية.
فقال: نعم عرفت حالها؛ ثم انزعج فظهر منه الغيظ والغضب، وعنده رجلان هما القيمان بأمور دولته، فقال لأخي: أبصر إلى أي شيء قد دفعت مع هذين. هذه المرأة كان لها ابن، وقد مات من مدة في الموصل، وهو غريب، وخلف قماشاً ومملوكين، فاحتاط نواب بيت المال على القماش، وأحضروا المملوكين إلينا، فبقيا عندنا ننتظر حضور من يستحق التركة ليأخذها، فحضرت هذه المرأة ومعها كتاب حكمي بأن المال الذي مع ولدها لها، فتقدم منا بتسليم مالها إليها، وقلت لهذين: اشتريا المملوكين منها، وأنصفاها في الثمن؛ فعادا وقالا: لم يتم بيننا بيع، لأنها طلبت ثمناً كبيراً، فأمرتهما بإعادة المملوكين إليها من مدة شهرين وأكثر، وإلى الآن ما عدت سمعت لها حديثاً، وظننت أنها أخذت مالها، ولا شك أنها لم يسلما المملوكين إليها، وقد استغاثت بهما، فلم ينصفاها، فجاءت إليك، وكل من رأى هذه المرأة تشكو وتستغيث يظن أني أنا منعتها أن تتسلم أنت المملوكين وتسلمها إليها؛ فأخذت المرأة مالها، وعادت شاكرة داعية، وله من هذا الجنس كثير لا نطول بذكره.

.ذكر ولاية ابنه الملك القاهر:

لما حضر نور الدين الموت أمر أن يرتب في الملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود، وحلف له الجند وأعيان الناس، وكان قد عهد إليه قبل موته بمدة، فجدد العهد له عند وفاته، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة عقر الحميدية، وقلعة شوش، وولايتهما، وسيره إلى العقر، وأمر أن يتولى تدبير مملكتهما، ويقوم بحفظهما، والنظر في مصالحهما، فتاه الأمير بدر الدين لؤلؤ ملا رأى من عقله وسداده، وحسن سياسته وتدبيره، وكمال خلال السيادة فيه، وكان عمر القاهر حينئذ عشر سنين.
وملا اشتد مرضه وأيس من نفسه أمره الأطباء بالانحدار إلى الحامة المعروفة بعين القيارة، وهي بالقرب من الموصل، فانحدر إليها، فلم يجد بها راحة، وازداد ضعفاً، فأخذه بدر الدين وأصعده في الشبارة إلى الموصل، فتوفي في الطريق ليلاً ومعه الملاحون والأطباء، بينه وبينهم ستر.
وكان مع بدر الدين، عند نور الدين، مملوكان، فلما توفي نور الدين قال لهما: لا يسمع أحد بموته؛ وقال للأطباء والملاحين: لا يتكلم أحد، فقد نام السلطان؛ فسكتوا، ووصلوا إلى الموصل في الليل، فأمر الأطباء والملاحين بمفارقة الشبارة لئلا يروه ميتاً، وأبعدوا، فحمله هو والمملوكان، وأدخله الدار، وتركه في الموضع الذي كان فيه ومعه المملوكان، ونزل على بابه من يثق به لا يمكن أحداً من الدخول والخروج، وقعد مع الناس يمضي أموراً كان يحتاج إلى إتمامها.
فلما فرغ من جميع ما يريده أظهر موته وقت العصر، ودفن ليلاً بالمدرسة التي أنشأنها مقابل داره، وضبط البلد تلك الليلة ضبطاً جيداً بحيث إن الناس في الليل لم يزالوا مترددين لم يعدم من أحد ما مقداره الحبة الفرد، واستقر الملك لولده، وقام بدر الدين بتدبير الدولة والنظر في مصالحها.